يفكك المخرج محمد عمر صورة المدينة الحلم، حين يقرأ الوجه الآخر لبيروت مدينة الأضواء والحرية، كاشفا تناقضات المدن الكبرى التي تبني سعادتها على تعاسة شرائح مهمشة مقصية عن دائرة الاهتمام، ففي أقل من عشر ثوانٍ تظهر بيروت من بعيد جميلةً ومهيبة في آن، تراوغ الصخب والغروب، بوصفها مدينة كبيرة حاضرة في الذاكرة والوجدان، قبل أن تتوغل الكاميرا إلى الداخل وتنشر قصصا واقعية لفتيات شابات مهمشات وغريبات عن المكان، يعملن خادمات في البيوت، ويتعرضن لمختلف أنواع التعذيب والاستغلال.
يقول عمر في النهاية: "فكر بغيرك"، وذلك في فيلمه التسجيلي "الهروب إلى الموت" الذي فاز بجائزة الحريات في مهرجان الجزيرة الأخير، وهو يلتقط موضوعا ينتمي إلى منطقة الهامش، هو عمل الخادمات في لبنان في تسجيلي متوسط الطول مطعّم بمشاهد تمثيلية، وتفاصيل درامية لقصص خادمات من الفلبين وسريلانكا وإندونيسيا وإثيوبيا وغيرها، مفتتحا بمشهد تمثيلي لمشهد انتحار مفترض، تقدم عليه الخادمات، على نحوٍ متكرر، أقدام مثبتة على الشرفات قبل وثبة الخلاص الأبدي.
وبعيدا عن صخرة الروشة البيروتية المشهورة بصخرة الانتحار، فثمة أمكنة أخرى تطير منها سبعون خادمة سنويا هارباتٍ إلى الموت. هناك دائما أرنديرا البريئة الهاربة إلى خلاص ما، فما الفرق بين مخدومات بيروت وجدة أرنديرا القاسية كما وصفها ماركيز في روايته "أرنديرا وجدتها القاسية"؟
جانيس جوزيف
الهروب إلى الموت وليس منه كما جرت العادة، ولكن ممن؟ هذا ما يشرحه الفيلم في قرابة خمسين دقيقة، فنتعرف إلى فضاء بيروت المتجدد، في واحدة من مدن الثراء والصخب والأبراج المرتفعة والخادمات القادمات من جهات العالم، وفي بيروت الجديدة الخارجة من عبء الحرب والهجرات.
جانيس جوزيف فتاة فلبينية جاءت للخدمة، لكنها وجدت على الرصيف جثة هامدة بعد ثلاثة
أشهر فقط، ليس لأن مخدوميها عاملوها بشكل سيئ، بل لأنها غير مهيأة للخدمة، هذا ما قالته صديقتها، وما أثبتته الأدوية التي كانت في حوزتها، الخاصة بمرضى الذهان وانفصام الشخصية، ولكن براءة مخدوميها من التعرض إليها لا تنفي مسؤولية مكتب الاستقدام المسؤول عن صحة الوافدين، فهو ملزم قانونا باستبدال الوافد أو معالجته خلال ستة أشهر.
لا تتوقف المسألة عند جانيس، فالأرقام الصادرة عن هيومن رايتس ووتش تتحدث بين عامَي 2008 و2011 عن 70 خادمة يقدمن على الانتحار، ليس حُبا في الطيران من الشرفات العالية كما يصرح العقيد مروان الرفاعي المهموم بالمسألة جنائيا وإنسانيا، فرصد الظاهرة يتطلب البحث عن مسبباتها، حيث العنف البدني الذي يمارس ضدهن.
"نور حياتي" من إندونيسيا تعاني من ضرب مبرح يكاد يؤدي إلى الموت، برغم كل هذا الألم فإن نور ذات الثلاث والعشرين سنة، تتكلم العربية بلهجة لبنانية وبلكنة لطيفة، تحمل المشاهد على التعاطف مع فتاة تتعرض للضرب بقسوة شديدة، كذلك البنغالية الناجية من الموت بأعجوبة بعد ضرب مبرح تعرضت له، لمطالبتها بالسفر لمشاهدة أمها التي تُحتضر، بعد إقامتها في لبنان مدة سنتين وثلاثة أشهر متواصلة، وتم تهديدها بالقتل إذا هي اشتكت.
تبين الأرقام الصادرة عن مؤسسة هيومن رايتس ووتش عام 2011 في لبنان أن 60% من الخادمات اشتكين من عدم دفع أجورهن، وأن 33% من الخادمات يتعرضن لعنف جسدي يشمل كسر الأيدي والحرق بمكواة الكهرباء وقص الشعر، وأن 73% منهن يعانين سوء تغذية، وأن 90% منهن لا يحصلن على إجازات، وأن 11% يتعرض لتحرش جنسي، وهناك حالات حمل من سفاح لا يعترف فيها الآباء بأبنائهم، ولا يسمح للخادمات باصطحابهم إلى بلادهن، كل هذا يدفع الفتيات إلى الانتحار، هربا من جحيم المعاناة إلى جحيم آخر هو الانتحار، وهو ما أثار سخرية سفير إحدى الدول المعنية بالأمر قائلا إن السفارة تحولت إلى صالة وفيات.
صدى الظاهرة التي أرقت المجتمع المحلي عبر شخصيات رسمية وقانونية وأمنية واجتماعية جملت وجه المدينة، وظهرت في الفيلم تنتقدُ الظاهرة وتقترح حلولا ممكنة، لشريحة جديدة تقترب من 200 ألف خادمة.
منجم النخاسة
لا يوجد قانون واضح يتعامل مع الحالات المختلفة. حتى عقد العمل الصادر عام 2007 لا تمتلك الخادمة فيه حق الخيار لتقبل أو ترفض، لأنها وقعت على العقد في بلد الاستقدام. ولأن الدول المصدرة لهذه العمالة حظرت السفر على رعاياها، فإن كلفة الاستقدام زادت وتضاعفت أرباح مكاتب الاستقدام بتحايلها على القانون بأكثر من طريقة وقفت عليها كاميرات الفيلم الخفية في أديس أبابا منجم الذهب الحقيقي لنخاسي الرقيق الجديد، وكشفت لنا عن نماذج مرشحة للعمل بشروط مجحفة، لأنها تفتقر إلى مقومات العمل في البيوت من مهارات وتواصل لغوي، وافتقاد القرابة.
ولا يختلف نموذج حسنية يوسف التي تستعد للمجيء إلى بيروت عن نموذج فري جابر التاجرة التي عاشت في بيروت وتزوجت من لبناني، لكن المجتمع المتمايز إثنيا وطائفيا لم يتقبل أمًّا سمراء اختارت لبنان وطنا لها، تبدع الكاميرا في قراءة خيبتها، وهي تتسوق مع أولادها وسط نظرات الفضوليين، رغم أن عدد الإثيوبيات في البلد يبلغ 36000 خادمة تقريبا.
لم تبق إلا ألكساندرا، التي اقتربت منها عدسة المصور في أكثر من لقطة، وتحكي معاناة خادمة تعرضت للضرب الشديد من مخدومها المتنفذ، الذي تسبب في تعطيل عملية جراحية مستعجلة، وبقيت شهورا تعاني من موت رحيم مجاني على نفقة جهة مجهولة. تموت ألكساندرا في مشهدٍ لاحق، وتسجل الحادثة انتحارا، في مأمن من ادعاء الورثة، لأنهم بعيدون عن مكان الحادثة بآلاف الكيلومترات، ولأن "حبال المحاكم طويلة".
وكما في الوجه الصلب للمدينة فثمة الإنساني الذي يعيد للمدينة وجهها، تتناوب مشاهد القسوة الشريط المشغول بتقنية الديكودراما، بموسيقى تصويرية متقشفة اهتمت بالطابع الحقوقي للظاهرة، التي تسجل للمخرج كعملٍ يُعلي صوت المهمشين، فكان جديرا به الفوز بجائزة الحريات العامة.